- مصر اليوم، إما أن تحُـوز القوّة أو تنقرِض ؟
كتب – رضا محمود
سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل، لكن قبل ذلك استعادة لبعض الاستشرافات التنبُّـؤية التي وضعها العالِـم العبقري الجغرافي والإستراتيجي المصري جمال حمدان في مذكِّـرات كُتِـبت في الفترة ما بين 1990 و1993 ونُـشرت مؤخراً:
- مصر اليوم، إما أن تحُـوز القوّة أو تنقرِض، إما القوة وإما الموت! فإذا لم تصبح مصر قوّة عُـظمى تسود المنطقة، فسوف يتداعى عليها الجميع يوما ما "كالقَـصعة"، أعداء وأشقاء وأصدقاء، أقربين وأبعدين.
- من المتغيِّـرات الخطرة التي تضرب في صميم الوجود المصري، ليس فقط من حيث المكانة، ولكن المكان نفسه ما يلي: لأول مرّة يظهر لمصر منافسون ومطالبون ومُدَّعون هيدرولوجيا (أي مائياً).
- كانت مصر سيدة النيل، بل مالكة النيل الوحيدة. الآن، انتهى هذا وأصبحت شريكة محسودة ومحاسبة، ورصيدها المائي محدود وثابت وغير قابل للزيادة، إن لم يكن للنّـقص والمستقبل أسود. ولَّـت أيام الغرق بالماء وبدأت أيام الجفاف من الماء، لا كخطر طارئ ولكن دائم. "الجفاف المستديم" بعد "الريّ المستديم".
نبوءات رائعة حقاً، وكأنها كانت حين تسْـطِـيرها قبل عشرين سنة، قراءة في كتاب مفتوح صدر عام 2010. فالجميع في الشرق الأوسط وخارجه يتداعَـون ضدّ مصر الآن تماماً كـ "القَـصعة"، والجميع يشعُـر بأنه صاحب دوْر كبير في غِـياب الأخ الأكبَـر، وهذا وضع لا يمكن أن يستمِـر، الأمر الذي يُـعيدناً إلى سؤالنا الأول: كيف سترُدّ مصر؟
عندما حطّ وزير الخارجية أبو الغيط الرِّحال في بيروت مؤخّـراً، أثار زوْبعة لم تهدَأ بعدُ، حين استخدم تعبير "العدُو الإسرائيلي". بالطبع، هذه لم تكن زلّـة لِـسان من رأس الدبلوماسية المصرية العريقة، أو قُـل هي كانت حتى زلّـة مقصودة، هدفها إطلاق رسائل متعدِّدة الأشكال في كلّ الاتجاهات، لكن مضمونها واحد: مصر لن تقِـف طويلاً مكتوفة الأيْـدي خارج إطار التمخّـضات الكُـبرى، التي يمُـر بها النظام الإقليمي الشرق أوسطي بسبب تراجُـع الدور الإستراتيجي الإسرائيلي وتقدّم الدوريْـن، التركي والإيراني.
وحين اندَلعت الأزمة الأخيرة في حوْض نهْـر النيل، بدأت تتراكَـم مؤشّـرات قوية على أن القاهرة تتأهّـب لعمل نوعِـي آخر في القارّة الإفريقية. ففجْـأة، باتت الأولوِية في السياسة الخارجية المصرية، هي للسودان بوصفه رأس الحربة في لُـعبة الحرب والسلام الجديدة في الحوْض. وفجأة، لم تعُـد الرقصة الكُـبرى في جنوب السودان قصراً على المصالح الغربية، الساعية إلى وضْـع يدِها على نفْـطه وثرواته الطبيعية الأخرى، بعد أن ألمحت مصر إلى أنها ستقِـف بالمِـرصاد لأي محاولة انفصالية في الجنوب.
هذا الموقف المصري الصّـارم، الذي يترافق مع سياسة اليَـد الممدودة إلى دُول حوض النيل والتي تتضمّـن اقتراحات تنمَـوية مُـشتركة وشامِـلة، بشرط سحْـب مياه النيل من بورصة المساومات، قد ينقلِـب في أيّ وقت إلى مبادرة عسكرية في حال شعرت القاهرة فعلا بأن أمنها الوُجودي المائي بات في خطر حقيقي.
وهكذا، من بيروت إلى الخرطوم، بدأت ترتسِـم معالِـم مرحلة جديدة في السياسة الخارجية المصرية، مرحلة اعتقد الكثيرون أنها قُـذِفت إلى الأبَـد إلى غَـياهِـب النِّـسيان، بعد أن اختارت القاهرة طريق السلام مع إسرائيل والتّـحالف مع أمريكا، لكن، هل يمكن للغرب وواشنطن أن يقبَـلا بحدوث تحوّل جِـدري في سياسة مصر، بعد أن كانت هذه الأخيرة هي حجر الأساس والضامِـن الأول لاستقرار (السلام الأمريكي) في الشرق الأوسط، طيلة العقود الثلاثة المنصرمة؟
السؤال يبدو خاطئاً في المرحلة الجديدة، الأدقّ أن يُسْـأل: هل ستتردّد مصر في السيْـر في هذا النهج الجديد، حتى ولو أغضب ذلك واشنطن وتل أبيب؟ الجواب الفوري هو: كَـلاّ، على رغم الأكلاف الباهظة المحتمَـلة لهذه الانعِـطافة الإستراتجية الواسعة.
صحيح أن النظام المصري، أو أي تركيبة سُـلطة جديدة في المرحلة الانتقالية الرّاهنة، لن يُـعيدا إنتاج التجربة الناصرية التي اصطدَمت بعُـنف مع الغرب وتحالَـفت مع الشرق (وهذا على أي حال غير وارد مع انتهاء الحرب الباردة وسقوط القُـطبية الثنائية)، لكن الصحيح أيضاً، أن القاهرة ليست مستعدّة ولا يمكنها أن تُضحّي بمصالحها الوجودية في حوْض النيل والإستراتيجية في الشرق الأوسط، إكراما لعيون واشنطن أو تجنبا لإغضاب إسرائيل.
مصر هنا هي مصر، مَـهْـما كان شكْـل الحكومة أو لونها في القاهرة. فـ "عبقرية المكان" التي تحدّث عنها العبقري الجغرافي - الإستراتيجي جمال حمدان، هي صاحبة القرار هنا، وهذا القرار لا يمكن إلا أن يصُبّ في نهاية التحليل إلى صالح دوْر خارجي مصري، أكثر فعالية بما لا يُـقاس في الدوائر العربية والإفريقية والإسلامية التي تحدّث عنها جمال عبد الناصر.
أجَـل، الفيضان الكبير آتٍ لا محالة في أرض الكِـنانة برأي عدد لا بأس به من المفكرين والمحللين وهو قمين - إن حصل فعلا - بأن يُـغيّـر كل معالِـم اللُّـعبة، على الأقل في الشرق الأوسط العربي الذي قد لن يطول انتظاره ليستقبل في قابل الأيام مصر "القديمة" بحُـلّة "جديدة".