أنتم لا تعرفونني!
لا أحد يحس بالبركان الذي يغلي فى صدرك،حتى أقرب الناس إليك لا يرى أن ابتسامتك ربما تخفى كهفاً من الأحزان لا يراه ولا يحسه غيرك...لا يعرفون أن نكاتك التى تلقيها
يمينا وشمالا ربما هى قناع لنفسك المكسورة الحزينة ...قناع يرسمه كبرياؤك الذي يأبي أن يراه أي إنسان فى موقف ضعف...عيناك لم تتوقف عن الدموع ولكنها دموع لا يراها أحد...فعيناك تدمع داخلك...تتجنب النظر إلى المرآة وأنت تصفف شعرك...تخشى أن تفضحك المرآه فتظهر ما بداخلك...تحس أنك ريشة فى مهب رياح الحياة المجنونة التى لا تأبه لصرخاتك المكبوتة و تأخذك بعيداً عن أحلامك ...بعيدا عن الحياة التى حلمت بها وخططت لها...تحس أن أقرب الناس إليك لا يعرفونك!.
من منا لم تجتاحه هذه الأحاسيس يوما ما...من منا لم يحس أن كل شئ حوله يتحرك وهو متجمد فى مكانه...تنير الشمس كل مكان على وجه الأرض إلا قلبه وروحه...يحس أنه شبح لا يراه أحد ولا يحس بوجوده أحد...تعذبه الوحدة حتى وإن عاش فى بيت مزدحم... فلا أحد يفهمه أو (يراه) حتى أقرب الناس إلى قلبه.
إذا مرت بك تلك الأحاسيس المرعبة – وحتماً ستمر بك - فلا تخاف!... كل هذه الأحاسيس هى جزء من طبيعتك البشرية التى فطرك الله عليها؛ هى أحاسيس إنسانية تجتاح قلوب كل البشروتجرى فى شرايين روحك تماما كما يجري الدم فى شرايين جسدك.
وعندما تحتل هذه الأحاسيس المؤلمة أرجاء قلبك فاعلم أنك لست وحدك... الملايين على هذه الأرض يشعرون فى نفس هذه اللحظة بنفس ما تحس به ولكنك لا تراهم يتألمون، تماما مثل عدم قدرتهم على رؤيتك تتألم... فمنذ طفولتنا ونحن فى تدريب عملى يومي على استخدام تلك الأقنعة النفسية التى نغطى بها جراح أرواحنا حتى لا يرى الناس منك إلا ما تريد أن تريه أنت لهم.
ليس هناك إنسان معصوم من هذه المشاعر المخيفة التى تجتاح قلوب الجميع ولا تفرق بين البسطاء والعلماء وحتى الأنبياء... الفرق الوحيد أنه كلما ارتقى مستوي الإنسان روحيا أو علميا كلما ازدادت إجادته لاستخدام تلك الأقنعة النفسية، والقرآن يحدثنا عن أناس فقراء يعتقد المجتمع أنهم أغنياء لأنهم يجيدون فن التعفف، وربما يبيتون جوعى تئن بطونهم بينما يحسبهم جيرانهم أنهم أصحاب أموال وأطيان.
حتى الأنبياء رضوان الله عليهم لم يكونوا معصومين من أن تجتاح تلك المشاعر المؤلمة لقلوبهم الطاهرة حتى ولو لثوان معدودة...فموسى عليه السلام الذي بلغت قوته الجسدية أن دفعة من يده تقتل رجلا، وبلغت قوته النفسية أن يقف لفرعون ويتحداه فى عقر داره ،نراه يجلس وحيداً بجانب صخرة فى الصحراء وقد تكلمت روحه المتألمة من تحت القوة التى يراه الناس بها مناجياً ربه بإحساسه أنه ضعيف فقير... فقير فى تأثيره على الناس... فقير فى وحدته العاطفية بلا زوجة ولا أولاد... فقير فى غربته بلا وظيفة ولا صديق فى بلد بعيدة.
قرأت كتابات لأطباء نفسيين فى الغرب عن تجاربهم وأكثر الحالات التى أثرت فى حياتهم فوجدت فى كتاباتهم قاسما مشتركا عن الاختلاف الرهيب بين رؤيتنا لإنسان وبين رؤية هذا الإنسان لنفسه، وعن هذه الأقنعة التى يغطى الناس بها آلامهم ولا يحس بها أحد...فهذه نجمة سينمائية هوليودية لا يختلف اثنان على جمالها ولكنها كانت تتجنب النظر العميق فى المرآة لإحساسها بدمامتها وفشلها فى الحياة... وهذا ملياردير اقتصادي ناجح يملك شركات فى كل أنحاء العالم ويؤثر فى اقتصاد دول بأكملها لكنه فى الحقيقة إنسان حزين يتألم داخلياً لأنه يعتقد أنه أضاع حياته فى جمع المال وأخذته الحياة بعيداً عن حلمه أن يكون مؤرخاً ومكتشفاً للآثار والحضارات، ورغم نجاحه الساحق فى مجاله إلا أن هذا النجاح ما هو إلا قناع يغطى به آلام الفشل التى احتلت قلب روحه وجعلته إنسانا حزينا رغم أن صورته على غلاف مجلة (فوربس) تحمل ابتسامة يظن من يراها أن هذا الرجل هو أسعد إنسان فى العالم.
وربما يفسر هذا ظاهرة انتحار أوحوادث موت أناس يظن كل منا أنهم فى غاية السعادة والنجاح فى حياتهم إلا أن تحقيقات الشرطة والطب الشرعي تثبت أننا لم نكن نعرفهم فهم كانوا محطمين داخليا وكل هذا النجاح والشهرة والمال والضحكات على شاشات التلفاز لم تكن إلا أقنعة نفسية تغطى أمواجا كالجبال من مشاعر الألم والوحدة والفشل تغرق فيها أرواحهم ولا يحس بهم أحد... فمايكل جاكسون الذي كان ملء السمع والبصر والذي ظن الناس أنه ملك كل شئ فى الدنيا لم يكن يملك أن ينام ليلة واحدة نوما عميقا طبيعيا مثل أي إنسان فقير فى أفقر مكان فى العالم ، وكان (جاكسون) لا يمكنه النوم إلا بالتخدير الكلي عن طريق طبيب وظل ذلك سراً لا يعرفه أحد عن (مايكل جاكسون) الذي ارتدى قناع النجاح الساحق حتى مات بسبب جرعة تخدير زائدة وكان كل أمله بضع ساعات من النوم كي ينسى أحزانه.
وربما أراد الممثل الشهير (هيث ليدجر) بطل فيلم (Dark Knight) أن يلفت أنظارنا إلى تلك القضية حين جسد دور )الجوكر( الذي يرسم على وجهه شفاة مبتسمة و وجها ضاحكا لكنها فى الحقيقة ما هى إلا ألوان وقناع يغطى جراحا غائرة على الوجه وداخل الروح...(ليدجر) نفسه كنا نراه شاباً فى ريعان الشباب وقد ملك الدنيا بيديه فها هو الذي مازال فى سن العشرينات إلا أنه تصدر قائمة أعلى الأجور فى العالم، ولا يشارك فى أي فيلم إلا ويرشح للأوسكار، واعتبر النقاد أنه سيصبح ممثل القرن الواحد والعشرين إلا أن كل هذا النجاح لم يكن إلا قناعا يغطي به (ليدجر) آلامه النفسية التى جعلته يعيش على العقاقيرالنفسية لمحاربة الإكتئاب الذي يعتصره ويحوله إلى بقايا إنسان ثم يموت نتيجة جرعة زائدة من هذه العقاقير وكأنه يقول لنا...أنتم لا تعرفونني...تظنون أنني إنسان سعيد ناجح وتتمنون أن تكونوا مثلي...ولكنكم لا تعرفونني...فأنتم ترونى أبتسم وأضحك وأنا اتسلم الجوائز... أنتم ترونى أقود أغلى السيارات وأعيش فى أفخم القصور وربما منكم من يعلق صورتى فى غرفته أو خلفية كومبيوتره...تقرؤون فى الصحف عن أدق تفاصيل حياتي وتتحدث البرامج الحوارية عن علاقاتي العاطفية ونوع الطعام الذي أحب وحتى نوع ملابسي الداخلية ولكنكم مازلتم لا تعرفونني... أنتم لا ترون إلا القناع الذي يغطى شخصاً آخراً يصارع الآلام والأحزان فى كل لحظة... وربما ستعرفون من أنا...(أنا) الحقيقي..عندما تشاهدون صورتي ميتا وحيدا فى غرفتى بدون أصدقاء أو صحافة أو أضواء وحولى علب الأدوية الفارغة وكوب الماء النصف ممتلء.
نعم لست وحدك من يشعر بهذه المشاعر...ولست وحدك من ينظر حوله ويصرخ بصوت غير مسموع فى وجه أصدقائه وأهله قائلا أنتم لا تعرفونني... فالجميع يصرخ هذه الصرخة غير المسموعة طوال الوقت، وكما أنهم لا يسمعونك فأنت أيضا لا تسمعهم.
الحقيقة التى لن تتغير أن الغالبية العظمى من الناس فى هذه الحياة لا يعرفونك حتى ولو كنت أشهر إنسان على وجه الأرض...فلماذا إذا تهتم برأي الناس فيك؟ ولماذا يؤرقك كلامهم وأحكامهم؟ ولماذا تريد أن تقهر نفسك وتغير أسلوب حياتك من أجل أن ترضيهم؟ ولما تحزن أو تفرح إن ظن الناس أنك فاشل أو ناجح أو كسلان أو نشيط أو منحل أو متدين أو فقير أو غني؟ أحكام الناس عليك كلها أحكام باطلة لأنهم لا يعرفونك!
الحقيقة أننا مجرد بشر ولا نملك التكنولوجيا التى تجعلنا نصور أرواح الناس بآشعة لنرى آلام أو أفراح أرواحهم ونتفهمها... الحقيقة أنه يمكنك أن تقضى سنوات كاملة فى صحبة صديق ولكنك فى الحقيقة لا تراه ولا يراك من الداخل... الحقيقة أنه يمكنك أن تعيش مع زوجتك لسنوات وسنوات وأنت لا ترى آلامها الداخلية ولا تسمع هى صرخاتك المكتومة... و إذا كنا حتى لا نستطيع أن نحكم على أقرب الناس إلينا فكيف تأخذنا عزتنا بالإثم لنحكم على أناس لا نعرفهم.
نرى إنسانا قد أخطأ مرة فى حياته فنقذفه بأحجار أحكامنا القاسية عليه ونحن لا نعرفه...نرى إنساناً يعاني من البدانة فنلومه فى عقولنا على كسله وضعفه أمام الطعام ونسخر منه ونحن لا نعرفه... نرى طالبا قد رسب فى امتحان فنحكم عليه بالفشل واللامبالاة ونحن لا نعرفه ...نرى فتاة قد تأخر زواجها فنحكم عليها بالفشل الإجتماعي ونحن لا نعرفها... نرى إنساناً تعثر فى حياته العملية فنلومه ونحكم عليه أنه فاشل ونحن لا نعرفه...نري إنساناً يخالفنا أسلوب الحياة الذي اعتدنا عليه فنسخر منه ونأخذ منه موقفاً ونعاديه ونحن لا نعرفه.
هناك فرد واحد فقط هو الذي يملك أن يري أرواحنا على حقيقتها بدون الأقنعة التى نرسمها على وجوهنا وأفعالنا...هذا الفرد هو الله الأحد الذي يغفر كل شئ إلا أن ينازعه أحد فى ملكه وألوهيته...وكل منا يخطأ هذا الخطأ وينازع الله فى حكمه ويحول نفسه إلى نصف إله ليحكم على الناس ويقيمهم ويصنفهم وينسى أن روحه مازالت تصرخ غاضبة فى صمت فى وجه كل من يرتكب نفس الشئ فى حقه ويحكم عليه قائلة: أنتم لا تعرفونني.
د / أحمد غانم
a