١٢ مؤشرا لتحديد الدولة الفاشلة
اعتمد تعبير الدولة الفاشلة Stat Failure منذ تسعينيات القرن الماضى، وحدد ١٢ مؤشرا اجتماعيا، اقتصاديا، سياسيا، وعسكريا، للحكم على ما إذا كانت هذه الدولة فاشلة أم لا، وتضمن مؤشرات مثل الزيادة فى عدد السكان، وسوء توزيعهم، الحركة السلبية للهجرات والميراث العدائى بين الطوائف والقبائل والأعراق، غياب التنمية، مستوى الفقر، وانعدام المساواة. فقدان شرعية الدولة، وغياب القانون، تدخل دول خارجية فى شؤون الدولة بما فى ذلك التدخلات العسكرية، كما يحدث فى العراق وأفغانستان.
وقد وضع هذا المصطلح أسساً جديدة للمقارنة بين الدول المختلفة تتجاوز الفارق بين دول ديمقراطية وغير ديمقراطية لتصل إلى مفهوم أكثر شمولاً وعمقاً سمى بالدولة الفاشلة وتضمن رصداً لأداء مؤسسات الدولة وشرعيتها وقدرتها على فرض هيبة القانون، وحجم إنجازها السياسى والاقتصادى.
وأصبحت هناك دول تعرف انتخابات ديمقراطية، وبعضها تفتح أفقاً لتداول السلطة، ومع ذلك اعتبرت دول فاشلة من حيث المعايير السابقة، ولعل المثل الكاريكاتورى المضحك المبكى هو الصومال، التى احتلت المركز الأول بين الدول الأكثر فشلا فى العالم رغم أن فيها رئيساً جديداً قيل إنه منتخب وأحل مكان رئيس سابق، وبها برلمان يقال إنه يجتمع، كل ذلك لم يخف أو يوقف انهيار مؤسسات الدولة الكامل وغيابها العملى عن حياة المواطنين فى ظل حرب أهلية عصفت بكل شىء: الدولة والبشر، ونساه العرب والعالم حتى بات مهددا بخطر التحلل والفناء.
والعراق بدوره نموذج آخر للدولة الفاشلة فهو يحتل المركز الخامس وسط ترتيب يضم ١٧٧ دولة فى تقرير أصدرته مجلة «السياسة الخارجية» Foreign Policy الأمريكية الشهيرة، وجاء الثالث عربيا بعد الصومال والسودان، رغم أنه يعرف انتخابات ديمقراطية أكثر نزاهة من مصر وكثير من دول التعددية المقيدة، ولكن نتيجة جريمة «بريمر» الحاكم الأمريكى لعراق ما بعد صدام حسين، حين قام بحل الجيش ومؤسسات الدولة، رغم نصائح الغالبية العظمى من خبراء مراكز الأبحاث الأمريكية بعدم الإقدام على هذه الخطوة وهدم الدولة العراقية، إلا أن إدارة بوش تعاملت على طريقة النظم العربية بأن هذا كلام خبراء لا يعرفون، وذهبوا بعيدا فى تدمير الدولة والمجتمع العراقى الذى لم تفلح حتى الآن الانتخابات الديمقراطية فى مواجهته.
وهناك أيضا خبرات أخرى ذهبت فى هذا الاتجاه، مثل تجربة باكستان التى عرفت منذ انفصالها عن الهند نظماً ديمقراطية وقادة سياسيين كباراً مع انقلابات عسكرية وجنرلات لعبوا على مثالب السياسيين وأخطائهم. ورغم أن القوى والأحزاب السياسية فى باكستان نجحت فى إسقاط الحكم الديكتاتورى لبرويز مشرف وتأسيس ديمقراطية جديدة سرعان ما اكتشف الجميع أنها ورثت دولة فاشلة مليئة بالفساد أداؤها متدهور لدرجة كبيرة، وبدلا من أن تواجه الحكومة المنتخبة ديمقراطيا تداعيات الدولة الفاشلة كرستها وانفضح أمرها أثناء تخبطها فى التعامل مع ضحايا الفيضانات الأخيرة.
أما بلد مثل المكسيك فقد عرف تحولا ديمقراطيا من داخل النظام ومن قلب الحزب الحاكم، بعد أن ظل فى الحكم ما يقرب من ٧٠ عاما إلى أن قرر منذ نهاية الألفية الثانية أن يحول البلاد نحو النظام الديمقراطى، وخسر موقعه فى الحكم بعد انتخابات ديمقراطية أشرف على إدارتها بنزاهة نسبية، ليستلم النظام الديمقراطى دولة فاشلة غاب عنها القانون وانهارت مؤسسات الدولة، حتى عمت فيها الرشوة والفساد وانعدام الكفاءة، واضطرت الحكومة الحالية أن تفصل الشهر الماضى ما يقرب من ١٠% من رجال الشرطة نتيجة دورهم النشط فى خدمة المافيا وعصابات الجريمة المنظمة، وهى نسبة لم تحدث فى تاريخ أى دولة فى العالم، وهناك شكوك حقيقية فى قدره الحكومة الديمقراطية على تطهير جهاز الشرطة الذى لا يغمض عينه على عصابات الجريمة المنظمة إنما يشارك فيها بحيوية وفاعلية مشهود له بها فى كل أمريكا اللاتينية.
ولعل هذا ما جعل تحول المكسيك نحو الديمقراطية بفضل جناح إصلاحى فى الحزب الحاكم لا يضعها فى مصاف الدول اللاتينية المتقدمة أو الناهضة مثل البرازيل والأرجنتين وحتى فنزويلا، وبقيت المكسيك رغم تاريخها العريق وثقلها السكانى ومساحتها الشاسعة تعانى من أزمات مزمنة بسبب وراثة النظام الديمقراطى الجديد لدولة فاشلة.
أما الحالة المصرية فقد احتلت مركزا مقلقا وسط هذه القائمة وهو الـ٤٠، حيث اكتست الدول الـ٣٥ الأولى باللون الأحمر فى إشارة إلى أن هذه الدول دخلت المرحلة الحرجة، ثم الدول من ٣٦ إلى ١٣٧ حيث تقع مصر اكتست باللون البرتقالى وهى مرحلة الخطر، ثم الدول من ١٢٨ إلى ١٦٢ وهى المرحلة المتوسطة، ومن الدول ١٦٣ حتى ١٧٧ باللون الأخضر وهى مرحلة الأمان. والحقيقة أن مصر دخلت فعلا مرحلة الخطر، وخطورة هذه المرحلة أن أى إصلاحات سياسية وديمقراطية لن تأتى بثمارها إذا أصبحت مصر دولة فاشلة وانتقلت من المرحلة الخطرة إلى الحرجة التى يشكك كثير من الخبراء فى إمكانية خروجها من دوامة الفشل، وباتت مصر بفصلها عن هذه الحالة أربع دول فقط.
والحقيقة أن مصر عرفت تدهورا غير مسبوق فى أداء مؤسساتها العامة فى الثلاثين عاما الأخيرة وشهدنا تصاعدا فى كل صور الصراعات الطائفية والمذهبية والفئوية، ورأينا ماجرى بين المسلمين والأقباط والمحامين والقضاة وشهدنا التدهور الهائل فى كل مرافق الدولة وفى تغيب دولة القانون والمواطنة.
وسنشهد انتخابات ستكون الأسوأ فى تاريخ مصر الحديث من حيث التزوير والبلطجة وشراء الأصوات وغياب الدولة والقانون. ولعل الفارق بين ما نشاهده الآن، وما عرفته مصر منذ تأسيس محمد على للدولة الوطنية الحديثة، يكمن أساسا فى اقتراب مصر من الدول الفاشلة بشكل كامل، فمصر لم تعرف طوال تاريخها المعاصر نظاما ديمقراطيا حقيقيا لا فى العهد الملكى رغم ليبراليته النسبية، ولا فى العهد الناصرى رغم ثوريته، ولا فى عهد السادات رغم حنكته، إنما عرفت مؤسسات دولة تعمل بكفاءة معقولة، وقانوناً يطبق فى كل المجالات إلا المجال الديمقراطى والسياسى.
وعلى خلاف مصر الحالية التى فقدت كفاءة مؤسساتها غير السياسية، وبريق جامعتها، نجد بلدان أوروبا الشرقية حين تحولت نحو الديمقراطية كانت فيها جامعات تُخرّج علماء ومهنيين، وكانت بها مستشفيات عامة متقدمة، ومسارح وسينما وفنون رفيعة، وبالتالى كان التحول نحو الديمقراطية أمرا سهلا نسبيا، لأن النظام الديمقراطى الجديد تسلم دولة تعمل، على عكس التجارب التى ورثت فيها القوى الديمقراطية دولاً فاشلة أو شبه فاشلة، حيث تعثر الاثنان معا فلا الحكم الديمقراطى نجح ولا الدولة عادت.
والحقيقة أننا فى مصر اقتربنا من مرحلة حرجة وسنشهد فى المستقبل المنظور مزيداً من الصراع على السلطة، بعضها سيخصم من رصيد الدولة وهيبتها واستقلالها، وسيدور خارج الأطر القانونية بما يعنى أنه فى حال أصبح التوريث هو البديل، فإن هذا سيعنى انتقالنا الكامل إلى مصاف الدول الفاشلة بامتياز مع مرتبة الشرف، أما إذا كان البديل هو فى الإصلاح والديمقراطية فإن هذا يتطلب جهداً وعرفاً وكوادر تبنى وتبدع وتعمل لا فقط تتظاهر وتحتج حتى يمكن إنقاذ ما يمكن إنقاذه
بقلم د. عمرو الشوبكى